ساو باولو – بإمكان فن الطبخ أن يلعب دوراً رئيسياً في الحفاظ على هوية اللاجئين السوريين الذين يعيشون في ساو باولو. هذا ما تبينه الدراسة التي أجرتها جامعة ساو باولو (USP) تحت عنوان “المأكولات السورية في حياة اللاجئين السوريين في مدينة ساو باولو: دراسة اثنوغرافية”، والتي تم نشرها في بداية اكتوبر الماضي في مجلة “APPETITE” العلمية الصادرة باللغة الانجليزية، وذات الموجز المتاح في موقعها الالكتروني.
وتعليقاً على هذا الموضوع قالت الأستاذة في قسم علوم التغذية والمسؤولة عن إعداد الدراسة “فرناندا سكاغلويزي”: “الغذاء حياة، وبالتالي فمن الممكن دراسة الحياة عن طريق الغذاء”. وأضافت بأن هذا العمل البحثي يبين أهمية الأطعمة في حياة اللاجئين السوريين، وذلك من خلال إظهار مختلف الأدوار الإجتماعية – الثقافية التي يلعبها فن الطبخ في حياتهم، كعامل من عوامل الحفاظ على الهوية ومصدر من مصادر الدخل المالي.
والجدير بالملاحظة أن هذا هو الجزء الأول من الدراسة المؤلفة من أربعة أجزاء والتي تتناول علاقة اللاجئين السوريين في ساو باولو بفن الطبخ، علماً بأنه لم يتم تحديد موعد إصدار بقية أجزاء الدراسة. وقد شارك أيضاً في إعداد هذا البحث أخصائية التغذية “فرناندا بورّيكا” والدكتورتان في علم الغذاء والصحة العامة، “ماريانا اوليان” و”بريسيلا ساتو”، إضافة إلى الأخصائي في علم الانسان “راميرو اونساين”.
وتتناول الدراسة مسألة التثاقف ومدى تأثير المأكولات على هذه العملية. وفي هذا السياق تؤكد البروفسورة “سكاغلويزي ” أن الغذاء يعد من الرموز التي تتخلل حياتنا، فهو أشبه ما يكون بعدسة تقودنا إلى التأمل في العالم. وحول هذا الموضوع تقول البروفسورة: “بإمكاننا أن نجزم جزماً قاطعاً بأن الحرب الأهلية في سوريا هي أكبر أزمة إنسانية في عصرنا. ولقد اخترنا التحدث عن اللاجئين السوريين في ساو باولو لأنه في الأشهر الأخيرة تلقينا الكثير من الأخبار حول العدد الكبير من السوريين الذين أتوا إلى البرازيل. نعلم أنهم استغرقوا مدة طويلة للوصول إلى هنا نظراً لبعد المسافة الجغرافية، كما ندرك أن تفاقم النزاع هو الذي حملهم على القدوم إلى البرازيل”.
وحسب ما جاء في الدراسة فإن المأكولات تلعب دوراً رئيسياً في الحفاظ على هوية أولئك الذين اضطروا إلى النزوح بشكل فجائي، فباتوا تائهين بعد أن فرضت عليهم الأقدار أن يغادروا بلادهم، وأن يعملوا في مجالات لم يعتادوا العمل فيها من ذي قبل، وألا يتكلموا لغتهم في الشوارع. وفي هذا السياق تقول البروفسورة “سكاغلويزي”: “لاحظنا أن القسم الأكبر من اللاجئين يعمل في مجال الأطعمة، علماً بأن الكثيرين يحملون شهادات جامعية، فمنهم المهندس، والطبيب، ومدير الأعمال، والتاجر، غير أنه لم تتح لهم فرص العمل في مجالات اختصاصاتهم هنا، فوجدوا في المأكولات السورية وسيلة لتأمين مصدر الدخل”. كما أنها تعتبر أن الصعوبات التي يواجهها اللاجئون لتعديل شهاداتهم تساهم في تفاقم هذا الوضع.
العناية بالأطعمة
تبين الدراسة أن العناية الفائقة التي يوليها اللاجئون للأطعمة أمر مثير للإعجاب، ويتجلى ذلك في حرصهم على اتباع الوصفة الأصلية، وفي الإحباط الذي يصيبهم عندما لا تتحقق النتيجة المرجوة. وفي هذا السياق تقول البروفسورة “سكاغلويزي”: “قابلنا شاباً كان يعمل في مخبز في سوريا، حيث أمضى سنوات عديدة في صنع الخبز. وخلال المقابلة شرح لنا أن ما نطلق عليه هنا اسم “الخبز السوري” لا يقارن بالخبز السوري الأصلي. لقد حاول إنتاج الخبز السوري هنا كما يُصنع في سوريا، لكنه فشل في محاولته لأن المكونات مختلفة، وهذا يؤثر على النكهة، وعلى الملمس وعلى كل شيء”.
المثال الآخر هو الآيس كريم السوري، وهو مزيج من الحليب، والقشطة، والسكر، وماء الورد، والفستق الحلبي. وتقول الباحثة أن صناعته تعتمد على العمل اليدوي التقليدي، ويتطلب تحضيره قوة جسدية هائلة وساعات طويلة، وأحيانا أياماً عديدة. “لقد كسب الآيس كريم أهمية رمزية في سوريا لدرجة أن رؤساء الدول الذين يزورون سوريا يُدعون لزيارة محل الآيس كريم الأكثر شهرة في دمشق لتذوق البوظة الشامية”.
وتشمل الدراسة مقابلة مع شخصين كانا يعملان في صناعة الآيس كريم يدوياً. أحدهما في بيته والآخر في مطعم. تقول البروفسورة “سكاغلويزي” شارحة: “التحضير اليدوي يتطلب وقتاً طويلاً وعناية فائقة ومن الضروري بذل جهد خارق للتوصل إلى الغاية المرجوة”. كما تبين الدراسة الجهود المالية التي يبذلها اللاجئون لشراء المكونات والتوابل المستخدمة في المطبخ السوري، مثل الهيل والفستق الحلبي وغيرها من المواد الباهظة الثمن في البرازيل.
وتضيف الباحثة قائلة: “الأمر لا يتعلق بالنكهة أو بالعادات والتقاليد، بقدر ما يتعلق بوجودهم هنا، في بلد ذو لغة مختلفة، وثقافة مختلفة، وعلى الرغم من ذلك فما زالوا ينعمون بتناول وجباتهم التقليدية”.
هناك مثال آخر ألا وهو الشواء السوري الذي يتم تحضيره بشكل مختلف، خاصة وأنه يدخل في تهيئته أيضاً لحوم مختلفة، كلحم الغنم الذي يتمتع بإقبال كبير من قبل المستهلك السوري، والعديد من أنواع الكبة المشوية.
إضافة إلى المأكولات فقد روى اللاجئون جوانب هامة من ذكرياتهم، كالمكان الذي يتم فيه تحضير الشواء، والبيت، ومحل البوظة. تطرقوا أيضاً إلى ذكر الفواكه التي لا يجدونها هنا، مثل الجانرك الأخضر، والخضراوات المرة، والفول الذي يتحسرون على عدم وجوده. وقد بينت البروفسورة “سكاغلويزي” أن هناك قائمة طويلة من الأطعمة السورية التي لا وجود لها في البرازيل.
الأطعمة والمقاومة
شرحت البروفسورة “سكاغلويزي” قائلة: “شعرنا أن الرابط الذي يجمع اللاجئين بمأكولات بلدانهم هو شكل من أشكال المقاومة ضد احتمالات تجريدهم من هويتهم، ومن نمط حياتهم، خاصة وأنهم فقدوا كافة مرجعياتهم – البيت والأقرباء والأصدقاء ومكان العمل – لقد جُردوا من كل شيء بشكل فجائي، فعاشوا الحرب والقصف وحتى السجن”.
وحسب ما جاء في الدراسة فإن الأطعمة تترجم إلى خطوات عملية ملموسة على أرض الواقع ما يمكن أن يأتي به السوريون إلى هذا المكان الجديد، بالمعنى المجازي، من معرفة حول فن الطبخ. وهكذا أصبحت المأكولات السورية عملاً ثابتاً لقسم كبير من هؤلاء اللاجئين الذين يواجهون مصاعب مالية جمة.
وحول هذا الموضوع تقول الباحثة: “خلال الفترة الإنتقالية لإدارة بلدية ساو باولو، سنة 2017، قام رئيس البلدية المنتخب آنذاك “جوآو دوريا” (الذي تخلى فيما بعد عن منصبه ليترشح لمنصب حاكم الولاية) بإلغاء قرار سابقه “فرناندو حداد” (2013 – 2016) الذي خصص للاجئين مكاناً في وسط المدينة لبيع المأكولات التقليدية. فطردوا من هذا المكان في عهد “جوآو دوريا” واضطروا إلى شحن معداتهم من ثلاجات، ومواقد وأفران صناعية، وشوايات الشاورما، وغيرها من المعدات الضخمة والثقيلة. وقد تسبب ذلك في مشاكل حتى بالنسبة لأوضاعهم السكنية، إذ أن بعض المسؤولين عن إدارة الأبنية السكنية اعتبروا أن تلك المعدات تنزع عنها الصفة السكنية”. وتفيد الدراسة أن لاجئ سوري كان يملك مطعمين، اضطر إلى إغلاقهما، والآن يعيش على دورات الطهي وبيع المأكولات السورية حسب الطلب، مما يولد حالة عدم الاستقرار، وفقاً لرأي “سكاغلويزي”.
وتضيف قائلة: “لاحظنا أن جميع اللاجئين يشعرون بقلق كبير تجاه نتائج الانتخابات الرئاسية، خاصة وأنهم بدأوا يعانون من التحامل ضدهم، والشتائم، والتمييز من جانب مؤيدي المرشح “جاير بولسونارو”. إنهم يواجهون حالة يرثى لها على الصعيدين السياسي والاقتصادي، علماً بأن هذا الوضع قد تفاقم كثيراً خلال الأشهر الأخيرة. لا ندرك إن كانت البرازيل ستستمر في استقبال اللاجئين، أم أنه سيتم طرد الذين قدموا إلى البلاد. فمنذ حكومة الرئيس “ميشيل تامر” (2016) شهد منح تأشيرات الدخول لطالبي اللجوء تراجعاً هائلاً، وساد الخوف بين اللاجئين، الذين أصابتهم حالة الضعف والرعب”. وتجدر الإشارة إلى أن وكالة الأنباء البرازيلية العربية (ANBA) أجرت هذا اللقاء يوم الخميس، الموافق 25 تشرين الأول/ اكتوبر، أي قبل الانتخابات التي جرت في يوم 28 من الشهر نفسه.