محمد الرشيد سيداحمد
لم تحزن البرازيل على خروجها من كاس العالم الذى نظمته دولة قطر والذى شهد العالم بأنه الاجمل عبر التاريخ بقدر حزنها وهى تودع مع خواتيم العام 2022 اسطورتها وجوهرتها السمراء العظيم بيليه، ورغم أنى كنت اتمنى أن تعود البرازيل بالكأس ليكون أعظم هدية للساحر الاسمر قبل رحيله، وكما صنع اديسون مصابيح أنارت العالم فى واحد من اعظم اختراعات التاريخ لكن اديسون البرازيلى لم يعجبه أن يكون مصباحا صغيرا محدود الاضاءة بالزمان والمكان ولكنه تفجر ليجعل من نفسه هالة ضوئية وشعلة كونية لن تنطفى حتى عقب رحيله الحزين.
برحيل الاسطورة بيليه تمت إقامة سرادق العزاء فى كل العالم، لم يكن عزاءاً خاصاً بالبرازيل فهو ابن العالم، كانت صورته فى كل بيت فى كل مدينة فى كل قرية فى كل نادى، عندما كنا أطفالا يسألنا الاباء ماذا تتمنون عندما تكبروا فنقول نريد أن نكون مثل بيله، نعم لقد غادرت روح بيليه جسده بعد رحلة طويلة من المعاناة مع المرض ولكنها مازالت ساكنة فى ارواحنا جميعاً، لهاذا حق له أن نسميه الاسطورة الخالدة، صورة دموعه وهو يحمل الكاس الذى وعد والده به قبل أن يبلغ السابعة عشرة، افرحت كل شباب العالم وعلمتهم أن الارادة وحدها تصنع المعجزات، لهذا سيبقى بيليه ملك وامبراطور الالهام الاول لشباب العالم اجمع.
بيليه هو من عرفنا على البرازيل، لم أكن أعرف عنها شيئاً، لم اسمع بالكارنفال، ولم اتذوق طعم القهوة البرازيلية ولم اتعرف على الامازون، ولم اتذوق الشوهاسكو والتابيوكا والفيجوادا، فقط كانت البرازيل هى بيليه وبيليه هو البرازيل، هو من جعل كرة القدم معشوقة العالم، هو من جعل لهذا المستطيل الاخضر سحره وجماله الذى تتنافس عليه الشعوب، هو ملك الارقام القياسية بآلاف الاهداف واسرعها، بثلاثة كاسات عالمية، وهو اصغر من حمل الكاس.
عندما حضرت الى البرازيل كان لدى حلم واحد، وهو أن التقى بالأسطورة بيليه وامد يدى اليه لأقول الان أن اصافح التاريخ، الآن يدى تلامس صانع الامجاد، الآن أنا اقف أمام رجل البطولات والمعجزات، الآن التقى بالرجل الذى سالنى معلمى فى الابتدائية يوما من هو لاعبك المفضل فقلت له وبدون تردد هو بيليه ولا أحد غير بيليه يمكن أن يكون الافضل، وستظل اسطورة بيليه باقية مع بقاء الحياة، ولن تنتهى برحيله الحزين، كان رجل الاخلاق فى الملعب، احب اللعب النظيف، لم يخادع ولم يمثل ولم يتعمد اصابة الخصوم من أجل فوز رخيص، بل كان يدرك أنه يستطيع أن ينتصر بشرف وباستحقاق ولا يحتاج لمشاهد اليوم الهزلية.
لقد زار الاسطورة الراحل بيليه بلدى السودان ضمن فريق سانتوس عام 1973، وإنه يشرفنى هنا أن انقل تعازى جموع وجماهير الشعب السودانى لاسرته، ولا اقول اسرته الصغيرة، فبيليه هو إبن العالم وكل العالم اسرته، وقد كان مشهد وصوله الى الخرطوم مهيباً وكان استقباله حافلا، لم يكن يظن أن له معجبين ومحبين فى ذلك الركن القصى من أفريقيا، ولأول مرة فى التاريخ لا تشجع الجماهير السودانية منتخباها، فقد كان بيليه يلعب وعندما يلعب بيليه لا يكون التشجيع إلا له دون غيره، إنهزم الفريق السودانى ولكن الجماهير خرجت من الاستاد مبسوطة تغنى، وكيف لا تغنى وقد التقت بحبيبها ومعشوقها، كيف لا تغنى وهى فى حضرة ساحرها وملهما، يكفى أن زيارته لبلد أفريقى آخر كانت تشتعل فيها الحرب الاهلية ليكون بيليه سبباً فى وقف القتال، ويضع الخصوم السلاح وياتو لمشاهدة الاسطورة معاً، لقد كان رجل سلام، ومحباً للسلام، وناشراً للسلام.
قوة البرازيل العظيمة تكمن فى تنوعها، وتعدد أعراقها وثقافاتها بين الاوروبية والافريقية والاسيوية، اى أن البرازيل هى عبارة عن عالم مصغر، ولكن البرازيل استطاعت أن تحول هذا التباين الى مصدر وحدة والهام وقوة وليس صراع كما فى بعض المناطق الاخرى، هذا التنوع يظهر حتى فى مناخاتها وطيورها وحيوانات غاباتها وحتى الاسمالك فى البحر، وهذا التنوع يجعلنا نؤمن بأن البرازيل وأرحام النساء البرازيلات قادرة على إنجاب الف بيله، وستشهد الاجيال القادمة ميلاد بيليه اخر يجدد فينا ذكرى معشوقنا الاول، وملهمنا الاكبر اديسون ديسانمنتو.
يقولون أن جوهرة (كوهينور) هى أغلى جواهر العالم، ولكننا نقول أن جوهرتنا السوداء اسطورة كرة القدم العالمية بيليه هو الاغلى بين كل الجواهر، هو ليس جوهرة نضعها على تاج ملكى، أو خاتم أميرى، إنها جوهرة روحية تحملها أروحنا، تمدها بالامل والحب والسلام، هو جوهرة أحلام الشباب الحالمين، فلترقد روحك العظيمة بسلام فى قبرها ايها الساحر الاسمر، فمحبة العالم لك ستجعلك حاضراً على مر العصور والتاريخ، وسيحفظ لك الرب كل شى جميل صنعته فى هذه الحياة.
الوزير المفوض
محمد الرشيد سيداحمد
القائم باعمال سفارة السودان بالبرازيل