ساو باولو – أحدثت جائحة كورونا تحولات عديدة على مستوى التجارة الخارجية، أغلبها سيصبح جزءاً لا يتجزأ من النشاط اليومي للعاملين في مجال الاستيراد والتصدير. فالآثار السلبية للوباء طالت القطاع بأكمله، بدءاً من أسلوب إنجاز الأعمال ووصولاً إلى عمليات شحن البضائع، هذا وأثبتت بعض الأساليب الجديدة المبتكرة للتأقلم مع سيناريو الجائحة فاعليتها، ما سيضمن استمرارها ودوامها إلى ما بعد الجائحة.
وفي مقابلة مع وكالة الأنباء العربية البرازيلية (أنبا)، سلط اختصاصيون الضوء على بعض التغيرات التي طالت واقع التجارة الدولية والتي من الممكن أن يتم اعتمادها مستقبلاً، منها تبسيط العمليات التجارية، وزيادة حجم المفاوضات الافتراضية، وبناء علاقات أكثر قرباً وموثوقية بين المصدّرين والمستوردين ومقدّمي الخدمات، وتقليل المساومات، وإعلاء شأن القضايا البيئية والاجتماعية ضمن المعاملات بين الدول.
أكّد أستاذ التجارة الخارجية والأعمال والخدمات اللوجستية الدولية في كلية “Ibmec”، في مدينة “بيلو هوريزونتي”، السيد “فيديريكو مارتيني”، أن الحكومة الفيدرالية في البرازيل كانت تفكر مسبقاً بتبسيط إجراءات التجارة الخارجية، وأن الوباء دفع بعجلة هذا المشروع في بعض النواحي، حيث قال: «حالياً يتم قبول بعض الوثائق إلكترونياً». ومع ذلك، فالسيد مارتيني مقتنع بأن العملية لم تكتمل بعد، وأنها اُعتمدت في البرازيل لأن غالبية دول العالم قد بدأت بتطبيقها.
تتذكر السيدة “مونيكا رودريغيز”، كبيرة مستشاري التجارة الدولية في شركة الاستشارات “BMJ” أن البرازيل خلال فترة الجائحة طبّقت تخفيضات وإعفاءات على التعريفات الجمركية المترتبة على واردات المنتجات المستخدمة لمحاربة الوباء، وأن شروط تسجيل الصادرات انخفضت بما يزيد عن 50%. وقالت: «هذا يعكس مرونة أكبر في عمليات الاستيراد». وهي على يقين بأن العالم اليوم استوعب مدى الحاجة لتجارة خارجية أكثر سلاسة.
ومن بين التسهيلات التجارية الأخرى المطبقة في البرازيل خلال فترة الوباء، وفقاً لرودريغيز، هو تمديد فترة الامتيازات المتعلقة بنظام الدروباك (الاسترداد الضريبي) الذي يقوم على مبدأ إعفاء الشركة من دفع الضرائب على بعض المدخلات إذا ما استخدمت في منتجات يتم تصديرها لاحقاً. وبالتالي فتمديد فترة السماح يعني زيادة في الفترة ما بين استيراد المدخلات وعملية التصدير، للتمكن من استرداد الرسوم المدفوعة. ومن المتوقع أن يصار إلى تمديد المواعيد مرة أخرى في عام 2021.
النقل
وأمّا فيما يتعلق بنقل البضائع من بلد لآخر، فعواقب الجائحة كانت وخيمة، والسبب عدم التوافر الكافي للسفن والحاويات، ما تسبب بزيادة كبيرة في تكاليف الشحن، وبالتالي في أسعار المنتجات. ما أدى بطبيعة الحال إلى تراجع مستوى الخدمة وتأخير في تسليم البضائع وزعزعة العلاقة بين المستورد والمصدّر. من المتوقع عودة القطاع لطبيعته بحلول منصف العام المقبل، ولكن ما حصل كان بمثابة خبرة مكتسبة.
يقول مارتيني أنه قبل انتشار الجائحة كان يتم حجز السفن وتحديد موعد نقل البضائع قبل عشرة أيام على الأكثر، أمّا اليوم ففي بعض الرحلات، كتلك المنطلقة من آسيا أو أوروبا إلى البرازيل، من الضروري الحجز قبل خمسة أسابيع لتأكيد موعد الشحن. وأكّد: «من واجبنا اليوم أكثر من أي وقت مضى الوقوف إلى جانب عملائنا ووضعهم في صورة الواقع الحالي». مارتيني يعمل في شركة دولية للخدمات اللوجستية إلى جانب عمله كأستاذ جامعي.
يرى مارتيني أن السيناريو الحالي ساهم بتوطيد العلاقة بين المستورد والمصدّر ومقدّم الخدمات اللوجستية. وهو يعتقد أن الوضوح في المعلومات غدا أمراً لازماً، وأن التعاقدات القائمة على ركيزة الأسعار فقط لم يعد مرحباً بها. حيث قال: «يتعين على كافة الشركات تطبيق سياسات الاحترام والصدق في التعامل والثقة بين الأطراف في أنشطتها اليومية».
وهو يؤمن بأن هذا التحول سيبقى. إذ قال: «إنه تغيير إيجابي للغاية ولابد أن يبقى. في السابق كانت المضاربة هي أساس المبادلات التجارية… اليوم أرى أن أكثر ما يهم عملائنا هو الموثوقية».
يدرك مارتيني أنه لا بد على المدى المتوسط والبعيد تعديل النظام اللوجستي: «جاءت الجائحة لتثبت لنا ضرورة إعادة النظر في هيكلية السلسلة اللوجستية والوقوف عند الأدوار المنوطة بكل حلقة منها». ففي سيناريو الجائحة ظهرت العيوب اللوجستية بشكل أوضح، وفي هذا السياق قالت “مونيكا رودريغز” بشأن النقل: «وكأن هذا الوباء أتانا بأحجية الصور المقطوعة، ونحن علينا تجميعها مجدداً!».
على الانترنت
وسائل عقد صفقات الاستيراد والتصدير تغيرت أيضاً وانتقلت إلى العالم الإلكتروني. حيث يقول مارتيني مشيراً إلى الاجتماعات التي تتم عبر منصات التواصل الافتراضية كـ “منصة زوم”: «جاءت هذه الأداة لتختزل المسافات بين الأشخاص». وهو يعتقد بأن إقامة المشاريع عن طريق الأنترنت وسيلة جديدة وباقية، لكن النموذج الذي سيسود هو الهجين (الافتراضي والحضوري)، حيث صرّح مشيراً إلى أن فرد المنتجات وعرضها على العملاء لتجريبها فوراً – وهو ما يسمح به النموذج الحضوري – أمراً ضرورياً ولا غنى عنه: «الوضع مختلف حين تكون في معرض على أرض الواقع، حيث يوجد ملايين الفرص للتفاوض وإغلاق الصفقات».
ترى المستشارة “مونيكا رودريغيز” أن البرازيل أدركت حاجتها للانخراط في السيناريو الدولي وفي سلاسل الإنتاج العالمية. وهي تعتقد أن ذلك ساهم في دفع عجلة الاتفاقيات والمفاوضات مع بعض المناطق، بالإضافة إلى تحديث ومراجعة تعريفات ميركوسور. حيث أكدّت: «إن هذه المراجعة جارية منذ مدة، ولكن الحاجة إليها أصبحت ملحة في ظل الجائحة والسياق العام، ومع ما تعانيه التجارة الخارجية في البرازيل والعالم بشكل عام».
اتفق الخبيران اللذان أجريا المقابلة مع “أنبا” على أن قضية الاستدامة اكتسبت أهمية كبيرة في عالم التجارة الخارجية بعد انتشار جائحة كورونا. حيث تقول رودريغيز: «بالإضافة إلى انشغال العالم بتعافي الاقتصاد وعودته إلى الوضع الطبيعي، هناك اكتراث واضح بشأن البيئة، ولا يمكن للبرازيل التغريد خارج السرب».
صرّح مارديني أن هناك إجراءات مستدامة داخل شركات الخدمات اللوجستية، وهي لا تنحصر فقط في المجال البيئي وإنما تطال المجال الاجتماعي أيضاً. حيث استشهد بالوقود الأقل تلويثاً للبيئة، الذي بدأ مالكو السفن باستخدامه. وقال: «الجائحة أرتنا جميعاً أن الحياة مليئة بالتقلبات. فاليوم موجودون هنا، وغداً قد لا نكون… لا أحد في السابق كان يولي اهتماماً لهذا الموضوع. وما تصبو إليه الشركات هو الاستمرارية والبقاء. فالأشخاص يذهبون.. لكن الصناعات تبقى!».
*ترجمة معين رياض العيّا