بقلم قيس شقير
للبعد الثقافي أهمية في العلاقات الاقتصادية بين الدول العربية والبرازيل تتجاوز ما نعهده في العلاقات فيما بين الدول الأخرى. ففي الدول العربية تحظى البرازيل بتفضيل المستهلك لمنتجاتها على غيرها لدواع تتعلق بحجم ما يكنّه مواطنو الدول العربية من محبّة لهذا البلد، ولتاريخ العلاقات الحافل بالمواقف السياسية المؤيدة للقضايا العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية. فإلى أي مدى يمكن القياس على هذا العامل لاستثماره في زيادة التبادل التجاري بين البرازيل والدول العربية وتعزيز الاستثمارات المشتركة فيما بين الجانبين.
وأما في البرازيل فإن حقيقة أن 5% من البرازيليين هم من أصول عربية، تفتح الباب على مصراعيه للنظر في تأثير هذا العدد الكبير من مواطني الدولة في دفع عجلة العلاقات الاقتصادية قدمًا مع دول العالم العربي، بما عرف عنهم من دور فاعل في مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البرازيل،ـ إلى جانب ارتفاع سويتهم العلمية.
فما يعني أن يفضل المستهلك العربي السلعة البرازيلية على غيرها؟ وكيف يمكن توظيف ذلك لصالح تنمية العلاقات الاقتصادية العربية البرازيلية؟
أولًا: يستدعي ما تقدّم دراسة توجّهات المستهلك العربي، والوقوف على خياراته، والاعتبارات التي يضعها في تفضيل منشأ السلعة، لوضعها بقالبٍ علميٍ دقيقٍ أمام كلٍ من المصنًع، والمصدّر، والمسثمر في الجانب البرازيلي، للبناء عليها في تعزيز فرص تسويق السلعة البرازيلية، وتحييد العقبات التي قد تحول دون تدفقها إلى الأسواق العربية، ومن ذلك المنافسة من جانب الدول المصدّرة الرئيسية، وعلى رأسها الصين، وتحديد الميزة النسبية للسلع البرازيلية، والسلع القادرة على المنافسة تبعًا لذلك. وسيكون على الدراسة أن تضع في قائمة أولوياتها أسس الترويج للمنتجات البرازيلية التي لم تدخل السوق العربية، لضعف التسويق لسلعٍ يمكن لها أن تنافس نظيراتها من دول أخرى، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، مستحضرات التجميل برازيلية المنشأ.
ثانيًا: تخطّي حاجز البعد الجغرافي، حيث سبق أن عُرض مقترح الشراكة الاستراتيجية، والموانئ الرئسية على البحر المتوسط، وإقامة مدنٍ صناعية عليها بمشاريع مشتركة من الجانبين (Joint Ventures).
ثالثًا: أن يترافق ما سبق مع تعزيز الحضور الثقافي للبرازيل في الدول العربية المرحّب به مسبقًا من قبل المستهلك العربي، بحيث تُفتتح مراكز ثقافية برازيلية في بعض الدول العربية, تُختار على مراحل، حسب السوق المستهدفة، والقابلة للنجاح- وبهامش زمني أقصر من غيرها- لنشر اللغة البرتغالية والثقافة البرازيلية، إلى جانب التسويق الإعلامي للمنتج البرازيلي، مما يخلق بيئةً مناسبةً للسلع البرازيلية لتنافس غيرها، وبأفضلية.
وعلى الجانب البرازيلي، فإن الجذور العربية لنحو أحد عشر مليون برازيلي، تحتّم توظيف العامل الثقافي في تعزيز العلاقات بين الجانبين العربي والبرازيلي في مختلف المجالات، وأبرزها الاقتصادية. ولنبدأ بالعامل النفسي( السايكولوجي)، فحقيقة أن السلع البرازيلية لها ميزة تفضيلية من حيث المبدأ عند المستلك العربي، لا بد أن تشّكل دافعًا نسبياً للمصدر البرازيلي ذي الجذور العربية لأن يستطلع فرص الاستثمار في الأسواق العربية.
ولعل الجانب الأكثر أهميةً في توظيف البعد الثقافي في تعزيز العلاقات الاقتصادية، هو في استثمار الثقافة في الاقتصاد، والاقتصاد في الثقافة، وهما جانبان متداخلان أكثر من غيرهما في الساحة البرازيلية. وهنا تبرز الحاجة للاستثمار المشترك العربي البرازيلي في السوق البرازيلية التي تضم أكثر من مئتين وعشرة ملايين نسمة، وتشكًل بوابة لدولٍ عديدةٍ في أمريكا الجنوبية.
مجالات توظيف الثقافة في تنمية العلاقات الاقتصادية العربية البرازيلية:
أولًا: التعليم بشقيه المدرسي، والجامعي:
إنّ تعليم اللغة العربية، ونشر الثقافة العربية هما محوران مهمّان في توظيف الثقافة في تعزيز العلاقات الاقتصادية، وتوظيف الاقتصاد خدمةً للثقافة. والمجال الأرحب لهذه المعادلة هو في الجانب الإعلامي، كمشروع إطلاق قناة فضائية ناطقة بالعربية، ونشر برامج إعلاميةٍ وثائقيةٍ، وأفلامٍ سينمائيةٍ، ومسلسلاتٍ عربيةٍ مترجمةٍ في المرحلة الأولى، ومدبلجةٍ إلى اللغة العربية في مرحلةٍ لاحقةٍ، يتعزز من خلالها تعليم اللغة العربية، وتعلّمها، بما يضمن إيجاد كفاءات قادرة على التصدي لمهمتي الترجمة، والدبلجة.
ولا بدّ أن تكون البرامج، والمواد الإعلامية السينمائية، والتلفزيونية تلك جاذبة للمشاهد البرازيلي، وللبرازيلي العربي على وجه التخصيص، بحيث ترفده بمادة ثقافية عن تاريخ بلاده وقضاياها الرئيسية، وحياتها الاجتماعية الراهنة، والسابقة التي عاش جزءًا منها.
ثانيًا: المنصة الثقافية الرقمية العربية البرازيلية:
وأطلقت الغرفة التجارية العربية البرازيلية مشروع المنصة الثقافية العربية البرازيلية Casa Arabe هو مشروع ذو أهميةٍ، وأولويةٍ، لانخفاض كلفته نسبيًا، وارتفاع مردوده، بما يفسح الطريق لما سبق التطرق إليه من توظيف الثقافة في خدمة الاقتصاد، والعكس، بوضع برامج لتعليم اللغتين العربية والبرتغالية، ونشر الثقافتين العربية، والبرازيلية في كلا الجانبين. ويمكن في هذا المجال الاطلاع على التجربة الصينية في إطلاق منصات ثقافية مع عديدٍ من الدول، منها بعض الدول العربية، تتضمن تعليم اللغتين العربية والصينية، ونشر الثقافة الصينية في مسارٍ موازٍ لتوسّع صادراتها في الأسواق العربية، وغيرها.
ثالثًا: تعزيز البرامج المتبادلة لتعليم اللغتين العربية والبرتغالية:
إن تعزيز البرامج المقدمة من وزارات الخارجية في الدول العربية والبرازيل، وكذلك الجامعات، والهيئات الأكاديمية، سيسهم في تعزيز العلاقات الثنائية بين الدول العربية منفردة، والبرازيل. وإن تركيز البرامج هذه لتأهيل الدبلوماسيين، والموظفين العاملين في المجالات التجارية، والاقتصادية، وترويج الاستثمار، ذو أهميةٍ، ومردودٍ بالغي الأثر.
خاتمة:
إن الطريق الأيسر لتحقيق ما سبق من أفكارٍ، تحتّم أن يكون القطاع الخاص في الدول العربية، والبرازيل طرفًا رئيسًا في تبنّي عديدٍ من المشاريع تلك، ومن منظور ربحي. فكما سبق الذكر، فإن الرؤية في هذه الورقة قائمة على توظيف الثقافة اقتصاديًا، والإفادة منها في تعزيز العلاقات الاقتصادية العربية البرازيلية، وما يستتبع ذلك من تعاونٍ في مجالاتٍ أخرى.
ولا يعني تولّي القطاع الخاص في الدول العربية والبرازيل لهذه المهمة، أن الدور الرسمي للحكومات مستبعد، بل بالعكس، فإن التّبني لهذه المهمة على المستوى الرسمي هو الأساس لانطلاقة أي جهد ثقافي يسهم في تنمية العلاقات الاقتصادية بين الدول العربية والبرازيل. وسيكون للشراكة بين القطاعين العام والخاص في تلك الدول الدور الأساسي في إنجاح أية مشاريع تصبّ في هذا الاتجاه.
سعادة السفير قيس شقير هو رئيس بعثة جامعة الدول العربية في البرازيل
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة تعبِّر عن رأي الكاتب.